انتهاء العمليات العسكرية ضد جماعات داعش الإرهابية ودخول العراق مرحلة السلم النسبي، وتأرجح أسعار النفط الخام حول معدل (80) دولار للبرميل، وارتفاع صادرات النفط الخام لقرابة (4) مليون برميل يومياً فضلاً على عودة الاستقرار الأمني لمعظم المدن العراقية، كانت ممكنات مناسبة لاستئناف جهود الإعمار والبناء وتحريك عجلة التنمية خلال العام الماضي.
إلّا أنّ مؤشرات الاقتصاد العراقي نهاية العام 2018 تنذر بمخاطر انزلاق مرجح صوب أزمة مالية واقتصادية جديدة قد تدخل القطاعات الاقتصادية كافة في ركود اقتصادي عميق إذا ما استمرت أسعار النفط عند مستوياتها الحالية والمتوقعة.
فقد ارتفعت معدلات البطالة إلى قرابة (30%) من حجم السكان القادرين على العمل، في حين ازداد حجم المديونية ليلامس حاجز (125) مليار دولار (الدَّين العام الداخلي والخارجي)، كما تشير تقارير وزارة التخطيط إلى ارتفاع معدلات الفقر والحرمان إلى نسب خطيرة، خصوصاً في المناطق المحرّرة من قبضة داعش، وتعثّر ملف إعادة إعمار المدن المحرَّرة ودعم العوائل النازحة نظراً لقلة التخصيصات المالية وضعف الدعم الدولي بسبب شبهات الفساد التي تنخر مؤسّسات الدولة منذ سقوط النظام السابق عام 2003.
ورغم ما شهده العام 2018 من إطلاق عدة إستراتيجيات وطنية، منها إستراتيجية الحدّ من الفقر (2018-2022)، وخطّة التنمية الوطنية (2018-2022)، والبرنامج الحكومي للسيِّد عادل عبدالمهدي (2018-2022)، وغيرها من الإستراتيجيات الوطنية المحمّلة بالأهداف الاقتصادية العريضة والطموحة. إلّا أنّ الملاحظ افتقار كافة الإستراتيجيات المعدّة إلى الواقعية والموضوعية، والمبالغة في رسم الطموحات والأهداف الاقتصادية الكبرى، من عدالة وفرص عمل وتحسين الواقع المعيشي وتحقيق الرفاه والتنويع الاقتصادي وتشجيع المنتج الوطني وإطلاق العنان للقطاع الخاص وغيرها من الأهداف.
وقد فشلت تلك الإستراتيجيات في الاختبار الأوّل حين خلا مشروع موازنة العام 2019 من الأدوات والسياسات اللازمة للبدء بتنفيذ الوعود والأهداف المضمنة في الإستراتيجيات المذكورة، وكانت الموازنة عبارة عن فواتير لتغطية النفقات الاستهلاكية للجهاز الحكومي المترهل، والرئاسات الثلاث، على حساب هدر الموارد النفطية وإرهاق كاهل الاقتصاد الوطني بالديون وضياع فرص التنمية وتوفير الحدّ الأدنى من الخدمات العامّة.
على الجانب الاستثماري، لم تفلح الهيأة العليا للاستثمار ومؤسّساتها العريضة المنتشرة في عموم محافظات البلد في تفعيل الجهد الاستثماري الوطني وجذب الاستثمارات الأجنبية، ولو بالحدود الدُّنيا، نظراً للبيروقراطية والصراع العنيف بين أحزاب السلطة على العقود والاستثمارات والفساد المستشري في مختلف حلقات الهيأة، والتباعد المستمرّ بين الخطاب المعلن والواقع الفعلي لعمل الهيئات الاستثمارية في البلد، لتكون هذه المؤسّسة طاردة للاستثمار بدل جذبه.
أمّا على مستوى القطاع الخاص، تميّز العام 2018 بعقد العديد من الورش والمؤتمرات والحلقات النقاشية الحكومية لإطلاق العنان للقطاع الخاصّ العراقي وتوفير المناخ المناسب لانطلاقه وفسح المجال أمامه لقيادة قاطرة النمو وتحريك القطاعات الاقتصادية وتوليد فرص مناسبة للعاطلين عن العمل. إلّا أنّ السياسات الحكومية الفعلية لم توفّر مظلة حماية فعلية ودعم مناسب لجهود القطاع الخاصّ في النهوض والانطلاق من جديد، ولم تكن السياسات الحكومية بمقاس الوعود والتوصيات المعلنة.
من جانب آخر، كان لبدء الحكومة التركية بملء سدّ اليسو صدمة كبيرة للاقتصاد العراقي، ولطموحات الحكومة في إنعاش القطاع الزراعي وتوفير المنتجات الزراعية المحلية بالشكل الذي يلبّي الطلب المحلي ويكون رافداً أيضاً للصناعات الغذائية في البلد. ويمثّل ملف العقوبات الأمريكية على إيران، وضرورة الاستغناء عن الغاز الإيراني، ملف ضغط آخر قد يقوّض الجهود الحكومية في توفير خدمات البنية التحتية (الكهرباء تحديداً) ودعم القطاع الصناعي في البلد.
إنّ الخروج بنتائج جديدة لن ينجز دون إعادة النظر بالمنظومة الحكومية المهيمنة على موارد وقطاعات الاقتصاد الوطني وآليات إدارة مؤسّسات الدولة وترسيخ سيادة القانون وتقليص الاتكال على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد، وفسح المجال لخبراء الاقتصاد في قيادة المؤسّسات الاقتصادية في العراق. ولأجل إنتاج سياسات اقتصادية بقياس التحدّيات القائمة ينبغي على الأقل إناطة مهام صنع السياسات الاقتصادية إلى مجلس اقتصادي أعلى للسياسات، يضمّ الخبراء والكفاءات الاقتصادية المستقلة. ويشترط في قراراته الإلزام والنفاذ، دون الدخول في الصراعات السياسية القائمة، بين الحكومة والبرلمان من جهة، والأحزاب السياسية داخل قبة البرلمان من جهة أُخرى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق